عبد اللطيف الحماموشي
١٨ إبريل ٢٠١٩
الساعة تشير إلى الخامسة والربع من مساء يوم الثالث والعشرين من شهر شباط/ فبراير 2018. الشرطة تقتحم مقر جريدة أخبار اليوم، الصحيفة الورقية الأكثر انتقادا للسلطة وتعتقل الصحفي توفيق بوعشرين، مدير ومالك الجريدة، وهو بالمصعد أثناء خروجه من مكتبه بتهمة الاتجار في البشر دون أي سند قانوني يبرر الاعتقال. وذلك ما أكده تقرير فريق عمل الأمم المتحدة المعني بالاحتجاز التعسفي، والذي طالب الحكومة المغربية "بإطلاق سراح بوعشرين ومنحه تعويض". وفي العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 أدانت المحكمة بوعشرين بـ 12 سنة سجناً نافذاً وغرامة قدرها 2 مليون درهم (أكثر من 200 ألف دولار ).
من خلال المشهد أعلاه، يمكن للفرد أن يستنتج واقع حرية الاعلام والصحافة في المغرب.
في البداية، ولفهم تسلسل واقع الحريات الاعلامية، لابد من تقديم نبذة عن تطور حرية الاعلام في المغرب. سنحاول خلال هذه المقالة أن نحلل أهم الوقائع والأحداث المتعلقة بالموضوع، انطلاقا من فترة نهاية التسعينيات إلى الآن.
يمكن القول أن حرية الصحافة والاعلام شهدت تقدما مع اعتلاء الملك محمد السادس العرش في عام 1999، حيث أراد أن يظهر بمظهر المصلح والحداثي المؤيد لحرية الرأي والتعبير، عكس والده الذي كان يحكم البلد بالحديد والنار. فتم الحديث خلال بدايات حكمه عن "المفهوم الجديد للسلطة"، "العهد الجديد"... إلخ. وبالفعل، حينها ازدهرت صحافة حرة ومستقلة عن النظام والأحزاب المعارضة اللذان كانا يسيطران على الساحة الاعلامية.
استطاعت الصحف والمجلات الحديثة الصدور وقتها أن ترفع السقف عاليا وتتطرق إلى الطابوهات والخطوط الحمراء "المحرمة" خاصة علاقة القصر الملكي بالاقتصاد، وسيطرته على النخبة السياسية، مستغلة بذلك الوضع الجديد. وقد كانت المجلة الأسبوعية "لو جورنال إبدومادير Le Journal Hebdomadaire " التي تأسست سنة 1997، مع حكومة التناوب والانفتاح الذي جرى خلال آخر سنتين من حكم الملك الحسن الثاني في طليعة هذا الاعلام الجديد.
مرت السنوات، وسرعان ما ضاق النظام ذرعا بالصحافة المستقلة التي باتت شبه متخصصة في صحافة التحقيق. فتم بذلك على سبيل المثال حجز عددان لمجلة نيشان و Telquel، في مطلع أغسطس/ آب عام 2009 من قبل وزارة الداخلية التي رأت أن المجلتين قد "مستا المقدسات وحرمتها"، عبر نشر استفتاء عن الملك محمد السادس (على الرغم من أن الاستفتاء كان في صالح الأخير). وقد سبق للسلطات أن حجزت عددا آخر لنفس المجلة سنة 2007 بسبب "الإخلال بالاحترام الواجب للملك".
لم تستعمل السلطات المنع فقط لمحاربة الاعلام المستقل، بل عملت على التضييق عليه مالياً، عبر منع الاشهار، والذعائر المالية الضخمة. وهكذا فقد أصدر القضاء حكمه بتغريم " Le Journal Hebdomadaire" بثلاثة ملايين درهم (أكثر من 300 ألف دولار) في 13 نيسان/ أبريل سنة 2006 لفائدة كلود مونيكي، المسؤول في المركز الأوروبي للدراسات الاستخبارية والاستراتيجية. وبعد عدد من المضايقات التي يصعب ذكرها خلال هذا المقال، توقفت المجلة عن الصدور نهائياً في 25 كانون الثاني/ يناير 2010. وبعد فترة، انتقل مديرها أبو بكر الجامعي من عالم الصحافة إلى ميدان البحث الجامعي خارج المغرب.
إدريس كسيكس، الصحفي الاستقصائي الشهير، ومدير تحرير مجلة "نيشان" هو كذلك غادر مهنة "صاحبة الجلالة" إلى المجال الأكاديمي. ويشار إلى أن مجلة "نيشان"، لمديرها أحمد رضى بنشمسي، قد توقفت نهائيا عن الصدور في 2010 تقريباً لنفس الأسباب التي توقف بسببها "Le Journal Hebdomadaire ". والغريب أن أحمد رضى بنشمسي هو نفسه غادر المهنة، متجهاً إلى البحث والعمل الحقوقي. النتيجة هي أن جزء مهم من جيل رواد الصحافة المستقلة المغربية قد غادر المهنة بسبب ضغط السلطة، والتضييق المالي، والمتابعات القضائية التي تستعمل لكبح أي تجربة مستقلة، ما يشكل خسارة حقيقية للإعلام المغربي.
خلال سنة 2011 شهد المغرب مظاهرات حاشدة مطالبة بالديمقراطية انضوت تحت حركة 20 شباط/ فبراير (النسخة المغربية من الربيع العربي). وفي ظل هذا السياق المتسم بالترقب، كان الاعلام الالكتروني في وضعية متقدمة نسبياً، إذ أن سقف الحرية ارتفع من جديد. وعادت الأسئلة التي كانت تطرحها مجلات وصحف كـ"نيشان" و "Le Journal Hebdo" و"الجريدة الأولى". وقد كان موقع "لكم" الذي كان يديره الصحفي علي أنوزلا نموذجاً للصحافة المهنية والمستقلة.
ولكن، تزامنا مع ذلك، صعد نجم "إعلام" التشهير الموجه من طرف دوائر مقربة من أجهزة الأمن بغرض تشويه سمعة المعارضة المستقلة عن النظام، وكل من لا يتفق مع الخطاب الرسمي. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن تهم " العمالة للخارج، المثلية الجنسية والالحاد ، خيانة الوطن" أصبحت لصيقة بنشطاء حراك 20 شباط/ فبراير.
وبينما انخفضت وتيرة "إعلام" التشهير نوعا ما لثلاث سنوات تقريباً بعد حراك 20 شباط/ فبراير، ربما انحناءاً لعاصفة الاحتجاجات، إلا أن هذا النوع من "الإعلام" شهد منذ بدايات 2014 اندفاعاً ربما لا مثيل له في تاريخ المغرب الحديث. ولنوضح ذلك سنعطي مثالا بشخص كالمؤرخ الجامعي والصحفي المعطي منجب الذي كُتب عنه أكثر من 480 مقالا تشهيرياً (بحسب بحث قام به كاتب المقال، نشر جزء منه في كتاب جماعي صدر مؤخراً). وهو ما يظهر استهداف هذا "الإعلام" لأشخاص بعينهم، فيعمل كالبوليس السياسي الذي يتعقبهم وينشر الأكاذيب عنهم، ويختلق أحداث ووقائع من العدم.
في 17 أيلول/ سبتمبر 2013 اعتقلت السلطات المغربية الصحفي الشهير علي أنوزلا، مدير موقع لكم. ووجهت له تهم ثقيلة تتعلق بـ "الدعم المادي وتمجيد الإرهاب والتحريض على تنفيذ أعمال إرهابية" بسبب نشر موقع "لكم" لمقطع منقول من يوتوب محسوب على تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي. وقد سبق لصحف عالمية أن نشرت الرابط نفسه مثل جريدة إلباييس الاسبانية.
كان من البديهي والواضح عبثية تهمة "الارهاب" الموجهة لصحفي تقدمي معروف بعلمانيته. ولعل ذلك ما برر حجم التضامن الوطني والدولي الكبير الذي لاقاه هذا الملف. فالاعتقال جاء بعدما كتب أنوزلا مقالاً ينتقد فيه السعودية (السعودية.. الخطر الداهم)، ونشره لتحقيق إخباري فجر قضية دانييل كالفان، البيدوفيل الأسباني الذي اغتصب إحدى عشر طفلا مغربياً، وحصل على عفوٍ ملكي. وبعد خمسة أسابيع من الاعتقال، تم إطلاق سراح أنوزلا. ولكن لايزال هذا الملف مسلطاً على رقبته كسيف "دموقليس" إلى حدود الساعة.
وبعد مرور نصف سنة من الاعتداء عليه في الشارع العام، اقتحمت الشرطة شقة الصحفي هشام منصوري، عضو الجمعية المغربية لصحافة التحقيق في 18 آذار/ مارس 2015، واعتقلته بتهمة ملفقة وهي "المشاركة في الخيانة الزوجية". وتم الحكم عليه بعشرة أشهر سجناً نافذاً.
وفي 16 أيلول/سبتمبر من نفس العام، مُنع المؤرخ والصحفي المعطي منجب من السفر بشكلٍ تعسفي وغير قانوني. ومنجب معروف بكتاباته الصحفية والأكاديمية التي تسمي الأشياء بمسمياتها. كما أنه كان يشرف على تنظيم حلقات نقاش تسعى إلى الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين المغاربة. أضف إلى ذلك الدور الهام الذي لعبه في نشر صحافة المواطنة وصحافة الاستقصاء.
كل ذلك أدى بالسلطات إلى استهداف منجب إعلامياً، كما وضحنا سابقا، وقضائيا، حيث تمت متابعته برفقة ستة نشطاء آخرين بتهم ثقيلة تتعلق بـ "المس بأمن الدولة وزعزعة ولاء المواطنين للمؤسسات الدستورية". وهدف كل ذلك هو كبح الأنشطة التي كان يشرف عليها منجب. واحتجاجاً على منعه من السفر، قام منجب بإضراب عن الطعام لمدة 24 يوما، كاد أن يودي بحياته.
الآن، وبعد أن تأزم الوضع أكثر مما كان، أصبح الخوف هو سيد الموقف. عدد كبير من الصحف والمواقع الإخبارية أصبحت تابعة لدوائر مقربة من أجهزة الأمن. حتى أنك حينما تتصفح البعض منها، تشعر وكأنك تقرأ في مسودات محاضر "البوليس السياسي".
بعد كل هذه الوقائع والأحداث التي قدمناها، ماذا يمكن أن يقول صحفي في بداية الطريق، يبلغ من العمر21 سنة مثل حالتي؟ لدي قناعة راسخة بأن ممارسة الصحافة والكتابة عموما تتطلب من الفرد نوعاً من نكران الذات، وتجسيد الأفكار والقيم النبيلة التي تأسس لأجلها الإعلام، وفي طليعتها الدفاع عن حقوق الإنسان والمواطن. طبعاً، يجب أن يكون ذلك في ظل المهنية، واحترام الآخر، وقول الحقيقة حتى ولو كنا غير متفقين معها.
Comments